بلاغة الكناية
الكناية
مظهر من مظاهر البلاغة، و غاية لا يصل إليها إلا من لطف طبعه و صفت قريحته، و
السّرّ في بلاغتها أنّها في صور كثيرة تعطيك الحقيقة مصحوبة بدليلها، و القضية و
في طيّها برهانها، كقول البحترى في المديح:
يغضّون
فضل اللّحظ من حيث مابدا لهم عن مهيب
في الصّدور محبّب
فإنّه
كانى عن إكبار الناس للممدوح و هيبتهم إيّاه بغضّ الأبصار الذي هو في الحقيقة
برهان على الهيبة و الإجلال، و تظهر هذه الخاصة جلية في الكنايات عن الصفة و
النسبة.
و
من أسباب بلاغة الكناية أنّها تضع لك المعانى في صور محسّات، و لا شكّ أن هذه خاصة
القنون فإن المصوّر إذا رسم لك صورة للأمل أو اليأس بهرك و جعلك ترى ما كنت تعجز
عن التعبير عنه واضحا ملموسا.
فمثله
( كثير الرّماد ) في الكناية عن الكرم و ( رسول الشرّ ) في الكناية عن المزاح و
قول البحترى:
أو
ما رأيت المجد ألقى رحله فى آل طلحة
ثمّ لم يتحوّل
في
الكناية عن نسبة الشرف إلى آل طلحة، كلّ أولئك يبرز لك الكعانى في صورة تشاهدها و
ترتاح نفسك إليها.
و
من خواص الكناية أنّها تمكّنك من أن تشفي غلتك من خصمك من غير أن تجعل له سبيلا، و
دون أن تخدش وجه الأدب، وهذا النوع يسمّى بالتعريض، ومثله قول المتنبّي في قصيدة
يمدح بها كافورا و يعرّض بسيف الدولة:
رحلت
فكم باك بأجفان شادن عليّ و كم باك
بأجفان ضيغم
وما
ربّة القرط المليح مكانه بأجزع
من ربّ الحسام المصمّم
فلو
كان ما بي حبيب مقنّع عذرت
و لكن من حبيب معمّم
و
ما واتقي رمي و من دون مااتّقي هوّي
كاسر كفّى و قوسى و أسهمى
إذا
ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدّق ما
يعتاده من توهّم
فإنّه
كنى عن سيف الدولة أوّلا بالحبيب المعمّم، ثمّ وصفه بالغدر الذي يدّعى أنّه من
شيمة النساء، ثم لامه على مبادهته بالعدوان، ثم رماه بالجبن لأنّه يرمي و يتقى
الرمى بالاستتار خلف غيره، على أن المتنبّي لا يجازيه على الشّر بمثله لأنّه لا
يزال يحمل له بين جوانحه هوى قديما يكسر
كفه و قوسه و أسمه إذا حاول النضال، ثم وصفه بأنه سيئ الظنّ بأصدقائه لأنّه سيئ
الفعل كثير الأوهام و الظنون حتّى ليظن أن الناس جميعا مثله في سوء الفعل و ضعف
الوفاء. فانظر كيف نال المتنبّي من سيف الدولة هذا النيل كلّه من غير أن يذكر من
اسمه حرفا.
هذا،
و من أوضح ميزات الكناية التعبير عن القبيخ الآذان سماعه، و أمثلة جدا في القرآن
الكريم و كلام العرب، فقد كانوا لا يعبّرون عما لا يحن ذكره إلاّ بالكناية، و
كانوا لشدّة نخوثهم يكنون عن المرأة
بالبيضة و الشاة.
ومن
بدائع الكناية قول بعض العرب:
ألا
يانخلة من ذات عرق عليك و رحمة الله السّلام فإنّه كنى بالنخلة عن المرأة التّي
يحبها.
و
لعلّ هذا المقدار كاف في بيان خصائص
الكناية و إظهار ما تضمّته من بلاغة و جمال.
Tidak ada komentar:
Posting Komentar